سورة القصص - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


ولما خرج موسى عليه السلام فاراً بنفسه منفرداً حافياً لا شيء معه، رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوه من الزاد وغيره فأسند أمره إلى الله تعالى و{قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل}، وهذه الأقوال منه تقتضي أنه كان عارفاً بالله تعالى عالماً بالحكمة والعلم الذي آتاه الله تعالى، و{توجه}، رد وجهه إليها، و{تلقاء} معناه ناحية، أي إلى الجهة التي يلقى فيها الشيء المذكور، و{سواء السبيل} معناه وسطه وقويمه، وفي هذا الوقت بعث الله تعالى الملك المسدد حسبما ذكرناه قبل وقال مجاهد: أراد ب {سواء السبيل} طريق مدين وقال الحسن: أراد سبيل الهدى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أبدع ونظيره قول الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم «هذا الذي يهديني السبيل» الحديث، فمشى عليه السلام حتى ورد {مدين} أي بلغها، ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه، ولفظ الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون الإطلال عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه، وهذه الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71]، و{مدين} لا ينصرف إذ هي بلدة معروفة، والأمة الجمع الكثير، و{يسقون} معناه ماشيتهم، و{من دونهم} معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمة وهكذا هما {من دونهم} بالإضافة إليه، و{تذودان} معناه تمنعان وتحبسان، ومنه قوله عليه السلام «فليذادن رجال عن حوضي» الحديث، وشاهد الشعر في ذلك كثير، وفي بعض المصاحف {امرأتين حابستين تذودان}، واختلف في المذود، فقال عباس وغيره {تذودان} غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء، وقال قتادة {تذودان} الناس عن غنمهما، فلما رأى موسى عليه السلام انتزاح المرأتين {قال ما خطبكما} أي ما أمركما وشأنكما، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب أو مضطهدٍ أو من يشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما {شيخ كبير} فالمعنى أنه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى، وحينئذ تردان، وقالت فرقة كانت الآبار مكشوفة وكان زحم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغلب الذي كان منه، وصفته إحداهما بالقوة، وقالت فرقة: بل كانت آبارهم على أفواهها حجارة كبار وكان ورود المرأتين تتبع ما في صهاريج الشرب من الفضلات التي تبقى للسقاة وأن موسى عليه السلام عمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قاله ابن زيد، وقال ابن جريج: عشرة، وقال ابن عباس: ثلاثون، وقال الزجاج: أربعون، فرفعه موسى وسقى للمرأتين، فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة، وقيل إن بئرهم كانت واحدة وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات، وقرأ الجمهور {نسقي} بفتح النون، وقرأ طلحة {نُسقي} بضمها، وقرأ أبو عمرو وابن عامر {حتى يَصدُر} بفتح الياء وضم الدال وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وقتادة، وقرأ الباقون {يُصدِر} بضم الياء وكسر الدال على حذف المفعول تقديره مواشيهم وحذف المفعول كثير في القرآن والكلام، وهي قراءة الأعرج وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق وعيسى، و{الرعاء} جمع راع، و{تولى} موسى عليه السلام إلى ظل سمرة قاله ابن مسعود، وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله {رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير}، ولم يصرح بسؤال، هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله، قال ابن عباس: وكان قد بلغ به الجوع واخضر لونه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه بظهره، ورئيت خضرة البقل في بطنه وإنه لأكرم الخلق يومئذ على الله، وروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدمه، وفي هذا معتبر وحاكم بهوان الدنيا على الله تعالى.


في هذا الموضع اختصار يدل عليه الظاهر قدره ابن إسحاق فذهبتا إلى أبيهما سريعتين وكانت عادتهما الإبطاء في السقي فحدثتاه بما كان من أمر الرجل الذي سقى لهما فأمر الكبرى من بنتيه، وقيل الصغرى، أن تدعوه له فجاءت على ما في هذه الآية، وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى شرفا، وروي أن اسم زوجة موسى منهما صفورة، وقيل إن اسمها صوريا، وقال وهب: زوجه الكبرى، وروي عن النبي عليه السلام أنه زوجه الصغرى، وذكره الثعلبي ومكي من طريق أبي ذر، وقال النقاش: ويقال كانتا توأمتين، وولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار، وقوله {تمشي} حال من {إحداهما}، وقوله {على استحياء} أي خفرة قد سترت وجهها بكم درعها قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال عمرو بن ميمون: لم تكن سلفعاً من النساء ولاجة خراجة، واختلف الناس في الرجل الداعي لموسى عليه السلام من هو، فقال الجمهور هو شعيب عليه السلام وهما ابنتاه، وقال الحسن: هو ابن أخي شعيب واسمه ثروان، وقال أبو عبيدة: يثرون، وقيل هو رجل صالح ليس من شعيب بنسب، وقيل إن المرأتين إنما كان مرسلهما عمهما وهو كان صاحب الغنم وهو المزوج ولكن عبر عن العم بالأب في جميع الأمر إذ هو بمثابته، وروي أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة أجاب فقام يتبعها إلى أبيها فهبت ريح ضمت قميصها إلى بدنها فوصفت عجيزتها فتحرج موسى من النظر إليها فقال لها ارجعي خلفي وأرشديني الطريق ففهمت عنه فذلك سبب وصفها له بالأمانة قاله ابن عباس، فوصل موسى عليه السلام إلى داعيه فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فأنسه بقوله {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون.
فلما فرغ كلامهما قالت الابنة التي ذهبت عنه {يا أبت استأجره} الآية، فما وصفته بالقوة والأمانة قال لها أبوها ومن أين عرفت هذا منه؟ فقالت: أما قوته ففي رفع الصخرة وأما أمانته ففي تحرجه من النظر إليَّ وقت هبوب الريح، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم، فقال له عند ذلك الأب {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيَّ} قال ابن عباس فزوجه التي دعته، وتأجر، معناه تثيب وقال مكي في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمر وجعل المهر إجارة ودخل ولم ينقد شيئاً.
قال القاضي أبو محمد: أما التعيين فيشبه أنه كان في أثناء حال المراوضة وإنما عرض الأمر مجملاً وعين بعذ ذلك، وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه فإما رسماه، وإلا فهو من وقت العقد وإما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وهذا أمر قد قرره شرعنا وجرى به في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن، وذهب بعض العلماء إلى أن ذلك خاص، وبعضهم إلى أنه منسوخ، ولم يجوز مالك رحمه الله النكاح بالإجارة، وجوزها ابن حبيب وغيره إذا كانت الأجرة تصل إلى الزوجة قبل ومن لفظ شعيب عليه السلام حسن في لفظ العقود في النكاح، أنكحه إياها أكثر من أنكحها إياه هذا معترض، وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطاً ووكل العامين إلى المروءة.


لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج، و{أيما} استفهام نصبه ب {قضيت} وما صلة للتأكيد، وقرأ الحسن {أيْما} بسكون الياء، وقرأ ابن مسعود {أي الأجلين ما قضيت}، وقرأ الجمهور {فلا عُدوان} بضم العين وقرأ أبو حيوة {فلا عِدوان} بكسر العين، والمعنى لا تبعة علي من قول ولا فعل، والوكيل الشاهد القائم بالأمر، قال ابن زيد: ولما كمل هذا النكاح بينهما أمر شعيب موسى أن يسير إلى بيت له فيه عصيّ وفيه هذا العصا، فروي أن العصا وثبت إلى موسى فأخذها وكانت عصا آدم وكانت من عير ورقة الريحان، فروي أن شعيباً أمره بردها ففعل وذهب يأخذ غيرها، فوثبت إليه، وفعل ذلك ثالثة، فلما رأى شعيب ذلك علم أنه يرشح للنبوءة فتركها له، وقيل إنما تركها له لأنه أمر موسى بتركها، فأبى موسى ذلك فقال له شعيب: نمد إليها جميعاً فمن طاوعته فهي له، فمد إليها شعيب يده فثقلت، ومد إليها موسى فخفت ووثبت إليه، فعلما أن هذا من الترشيح، وقال عكرمة: إن عصا موسى إنما دفعها إليه جبريل ليلاً عند توجهه إلى مدين، وقوله تعالى {فلما قضى موسى الأجل}، قال سعيد بن جبير سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى موسى، فقلت لا أدري حتى أقدم على حبر العرب أعني ابن عباس، فقدمت عليه فسألته، فقال قضى أكملهما وأوفاهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال وفى فعدت فأعلمت النصراني، فقال صدق هذا والله العالم، وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشراً وعشراً بعدها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وفي قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما قضى الأجل أراد أن يسير بأهله إلى مصر بلده وقومه وقد كان لا محالة أحس بالترشيح للنبوءة فسار وكان رجلاً غيوراً لا يصحب الرفاق، فلما جاء في بعض طريقه في ليلة مظلمة مردة حرة قال النقاش كانت ليلة جمعة فقدوا النار وأصلد الزند وضلوا الطريق واشتد عليهم الخصر، فبينا هو كذلك إذ رأى ناراً وكان ذلك نوراً من الله تعالى قد التبس بشجرة قال وهب كانت عليقاً وقال قتادة عوسجاً.
وقيل زعروراً، وقيل سمرة، قاله ابن مسعود و{آنس} معناه أحسن والإحساس هنا بالبصر ومن هذه اللفظة قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً} [النساء: 6] ومنها قول حسان: [المنسرح]
انظر خليلي بباب جلق هل ت *** ونس دون البلقاء من أحد
وكان هذا الأمر كله في {جانب الطور} وهو جبل معروف بالشام، و{الطور} كل جبل، وخصصه قوم بأنه الذي لا ينبت فلما رأى موسى النار سر فقال لأهله أقيموا فقد رأيت ناراً {لعلي آتيكم منها بخير} عن الطريق أين هو {أو جذوة} وهي القطعة من النار في قطعة عود كبيرة لا لهب لها إنما هي جمرة ومن ذلك قول الشاعر: [ابن مقبل]: [البسيط]
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها *** جزل الجذا غير خوار ولا دعر
قال القاضي أبو محمد: وأحسب أن أصل الجذوة أصول الشجر وأهل البوادي أبداً يوقدونها، فتلك هي الجذوة حقيقة، ومنه قول السلمي يصف الصلى: [الطويل]
حمى حب هذا النار حب خليلتي *** وحب الغواني فهي دون الحبائب
وبدلت بعد البان والمسك شقوة *** دخان الجذا في رأس أشحط شاحب
وقرأ الجمهور {جِذوة} بكسر الجيم، وقرأ حمزة والأعمش {جُذوة} بضمها، وقرأ عاصم {جَذوة} بفتحها، وهي لغات والصلى حر النار، و{تصطلون} تفتعلون منه أبدلت التاء طاء، فلما أتى موسى عليه السلام ذلك الضوء الذي رآه وهو في تلك الليلة ابن أربعين سنة نبئ عليه السلام، فروي أنه كان يمشي إلى ذلك النور فكان يبعد منه تمشي به الشجرة وهي خضراء غضة حتى {نودي}، والشاطئ والشط ضفة الوادي، وقوله {الأيمن} يحتمل أن يكون من اليمن صفة للوادي أو للشاطئ، ويحتمل أن يكون المعادل لليسار فذلك لا يوصف به الشاطئ إلا بالإضافة إلى موسى في استقباله مهبط الوادي أو يعكس ذلك وكل هذا وقد قيل، وبركة البقعة هي ما خصت به من آيات الله تعالى وأنواره وتكليمه لموسى عليه السلام، والناس على ضم الباء من بُقعة، وقرأ بفتحها أبو الأشهب، قال أبو زيد: سمعت من العرب: هذه بَقعة طيبة بفتح الباء، وقوله تعالى {من الشجرة} يقتضي أن موسى عليه السلام سمع ما سمع من جهة الشجرة، وسمع وأدرك غير مكيف ولا محدد، وقوله تعالى {أن يا موسى} يحتمل أن تكون {أن} مفسرة ويحتمل أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، وقرأت فرقة {أني أنا الله} بفتح {أني}، ثم أمره الله تعالى، بإلقاء العصا، فألقاها فانقلبت حية عظيمة ولها اضطراب الجانّ وهو صغير الحيات فجمعت هول الثعبان ونشاط الجانّ، هذا قول بعضهم، وقالت فرقة: بل الجانّ يعم الكبير والصغير وإنما شبه ب الجان جملة العصا لاضطرابها فقط، وولى موسى عليه السلام فزعاً منها، {ولم يعقب}، معناه لم يرجع على عقبه، من توليه فقال الله تعالى {يا موسى أقبل} فأقبل وقد آمن بتأمين الله إياه، ثم أمره أن يدخل يده في جيبه وهو فتح الجبة من حيث يخرج رأس الإنسان، وروي أن كم الجبة كان في غاية الضيق فلم يكن له جيب تدخل يده إلا في جيبه، وسلك معناه أدخل ومنه قول الشاعر: [البسيط]
حتى سلكن الشوا منهن في مسك *** من نسل جوابة الآفاق مهداج
وقوله تعالى: {من غير سوء} أي من غير برص ولا مثلة.
وروي أن يده كانت تضيء كأنها قطعة شمس، وقوله تعالى: {واضمم إليك جناحك من الرهب} ذهب مجاهد وابن زيد إلى أن ذلك حقيقة، أمره بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه، ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في أوقات فزعه أن يقوى قلبه، وذهبت فرقة إلى أن ذلك على المجاز والاستعارة وأنه أمره بالعزم على ما أمر به وأنه كما تقول العرب اشدد حيازيمك واربط جأشك، أي شمر في أمرك ودع الرهب، وذلك لما كثر تخوفه في غير ما موطن قاله أبو علي، وقوله تعالى {فذانك برهانان} قال مجاهد والسدي: هي إشارة إلى العصا واليد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والناس {الرَّهَب} بفتح الراء والهاء، وقرأ عاصم وقتادة {الرهْب} بسكون الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم أيضاً {الرُّهْب} بضم الراء وسكون الهاء، وقرأ الجحدري {الرُّهُب} بضم الراء والهاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {فذانّك} بشد النون، وقرأ الباقون {فذانك} بتخفيف النون، وقرأ شبل عن ابن كثير {فذانيك} بياء بعد النون المخففة، أبدل إحدى النونين ياء كراهة التضعيف، وقرأ ابن مسعود {فذانيك} بالياء أيضاً مع شد النون وهي لغة هذيل، وحكى المهدوي أن لغتهم تخفيف النون، و{برهانان}، حجتان ومعجزتان، وباقي الآية بين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8